[1] سبل الوفاق إلى أحكام الزواج والطلاق
المطلب الثاني: زواج القريبة:
إن إفراد الحديث عن زواج القريبة في مطلب خاص مع أنه داخل في صفات الزوجة يرجع لأهميته؛ ولطول الكلام فيه؛ لما في هذه المسألة من طول وتفصيل بسبب ما وقع فيها من خلط وتشويش يحتاج إلى البيان والتصحيح. ولتحقيق المراد نجيب عن سؤالين، وهما: هل ثبت في نصوص الشرع العظيم نهيٌ عن زواج الأقارب؟ هل نصّ الفقهاء الكرام على اختلاف مدارسهم الفقهيّة على كراهة زواج القريبة؟ والإجابة عن كلٍّ منها كالآتي:
أولاً: نصوص الشرع في زواج القريبة، وفيها ما يلي:
الأول: نصوص النهي عن زواج القرابة:
أورد بعض الفقهاء في كتبهم ألفاظاً لأحاديث في النهي عن زواج القرابة مستدلّين بها على ما أرادوا، ولكن من المعلوم أن كلَّ علم وفنٍّ يؤخذ من أهله فكما أن الفقه لا يؤخذ من كتب الحديث والتفسير، كذلك لا يؤخذ الحديث من مدونات الفقه، وهذا يلزمنا الرجوع إلى مصنّفات الحديث المختلفة أو كتب التخاريج التي اعتنت بتخريج أحاديث الكتب الفقهيّة لمراجعة حال هذه الأحاديث فيها وثبوتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأحاديث هي:
(لا تنكحوا في القرابة القريبة، فإنه يورث ضآلة في الولد)، أو بلفظ: (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً)، أو بلفظ: (اغتربوا لا تضووا). ومعنى تضووا: قال الفيومي: ((ضوي الولد ضوى من باب تعب إذا صغر جسمه وهزل، فهو ضاوي مثقل، والأصل على فاعول، والأنثى ضاوية، وأضويته أضعفته)).
نقل ابن حجر العسقلاني وابن المُلقِّن وابن حجر الهيتمي والرملي والشربيني وغيرهم قول ابن الصلاح فيه: ((لم أجد له أصلاً معتمداً)). وأقرُّوه عليه. وقال التاج السبكي: ((لم أجد له إسناداً)). وبذلك يتَّفق الحفَّاظ وغيرهم على أن هذه الألفاظ لهذا الحديث موضوعة ولا وجه للاحتجاج بها.
(الناكح في قومه كالمعشِّب في داره)، هذا الحديث أحد أحاديث نسخة لسليمان ابن أيوب عن أبيه عن جدّه عن موسى بن طلحة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن عدي(2): ((عامّة هذه الأحاديث أفراد لهذا الإسناد لا يتابع سليمان عليها أحد)). وقال يعقوب بن شيبة: ((هذه الأحاديث عندي صحاح)). قال العراقي: ((ورجَّحها الضياء المقدسي في ((المختارة)). وقال الذَّهَبِيّ عن سليمان: ((صاحب مناكير، وقد وثِّق وقال ابنُ حجر: ((لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً، وذكره ابن حبِّان في ((الثقات)) )).
أما ما يستند إليه من أحاديث أخرى للاحتجاج بذلك كحديث( تخيّروا لنطفكم فإن العرق دساس)، وحديث (إياكم وخضراء الدمن)، فلا دلالة فيها على زواج القرابة من قريب أو بعيد، ومع ذلك فقد حكم أهل الشأن على عدم ثبوتها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد فصل الكلام فيها خير تفصيل الإمام الكوثري في مقالين من مقالاته.
الثاني: نصوص إباحة زواج القرابة:
قوله - جل جلاله -: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً }.
فهذه الآية كانت في زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش، وهي بنت عمّة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، روى الحاكم عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: (كانت زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة وأمّها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عمرو بن عبد مناف، وكانت زينب عند زيد بن حارثة ففارقها فتزوَّجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها نزلت { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } قال: فكانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوَّجني الله من رسوله وزوجكنّ آباؤكنّ وأقاربكنّ).
لكن يمكن أن يقال: إن هذه الآية ليست نصاً في المسألة؛ إذ هي لبيان إباحة زوجة المتبنّى. وهذا الكلام وإن كان صحيحاً لكنّه لا يمنع أن يستفاد منها أحكاماً أخرى لا سيما في مسألتنا هذه؛ إذ هي صريحة في إطلاق زواج القرابة القريبة كبنت العمّة.
تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ كما هو متواتر ـ علياً بن أبي طالب - رضي الله عنه - من ابنته فاطمة رضي الله عنها، وهي ابنة ابن عمّه؛ إذ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلي أبناء الأعمام.
ويمكن أن يقال: إن خلاف الأولى من الزواج هو القرابة القريبة كبنت العم والعمة والخال والخالة أما البعيد فليس كذلك، والحديث ليس في زواج القرابة القريبة.
تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته زينب رضي الله عنها لأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس قبل البعثة، وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد، ثمَّ ردَّها عليه بعد إسلامه بنكاح جديد.
ويمكن أن يقال فيه: إن هذا الزواج كان في الجاهلية قبل الإسلام، وفعل الرسول كان تقريراً له لما ترتَّب عليه من آثار كالأولاد والصلة بين الزوجين وهي لا شك أكبر وأعظم مما قد يتوهّم من هذه المصلحة.
نخلص من هذا العرض للنصوص الشرعيّة أنه لا يوجد نصّ يخصص أو يقيِّد إطلاق الإباحة في آيات القرآن الكريم المشتمل على زواج القريبات كما في قوله - جل جلاله -: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } ، كيف لا، وقد ورد نصّ قرآني خاصّ في إباحة وإحلال زواج القريبات من القرابة القريبة قال - جل جلاله -: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك }.
وهذا العموم القرآني أكّده فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما مر في نصوص الإباحة رغم ما ذكر من تأويلها وحملها على خلاف المتبادر منها.
فما وجد من النهي لا يقابل هذا الوضوح في الإباحة الواردة في القرآن الكريم وتطبيق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - له؛ لأنه في ألفاظ لا تثبت عن الحضرة النبوية، أو بحديث فيه اختلافٌ كبيرٌ في ثبوته كما سبق.
وأقصى ما يستفاد من ذلك عدم استحباب المبالغة في زواج القرابة بحيث لا يزوِّجون غيرهم ولا يتزوَّجون من غيرهم، ويؤيد ذلك ما ((روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث عن عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة قال: قال عمر - رضي الله عنه - لآل السائب: قد أضوأتم فأنكحوا في النوابغ. قال الحربي: يعني تزوجوا الغرائب)؛ إذ يستفاد منه أن آل السائب كانوا يقتصرون على زواج الأقارب حتى ضعف نسلهم، فأمرهم عمر - رضي الله عنه - أن يتزوّجوا من الغريبات؛ ليقوُّوه.
ثانياً: رأي الفقهاء في زواج القريبة:
روى ابن يونس في تاريخ الغرباء في ترجمة الشافعي عن شيخ له عن المزني, عن الشافعي قال: أيما أهل بيت لم يخرج نساؤهم إلى رجال غيرهم كان في أولادهم حمق.
ولعلّ مستند الشافعي - رضي الله عنه - في كلامه إلى ما ((كانت العرب تزعم أن الولد يجيء من القريبة ضاوياً لكثرة الحياء بين الزوجين لكنه يجيء على طبع قومه من الكرم).
لذلك وجدنا فقهاء الشافعية وبعض الحنابلة نصوا على استحباب زواج الأجنبيّة ومن ليست قرابة قريبة، وبيَّنوا أن المراد بالقرابة القريبة من هي في أول درجات الخئولة أو العمومة كبنت الخال وبنت العم. وذكر السادة الشافعية أن القرابة البعيدة أولى من الأجنبيّة؛ لانتفاء المعنى في بعض التعليلات الآتية مع حنو الرحم. وحملوا كلام الشافعي - رضي الله عنه - على عشيرته الأقربين.
واستندوا في هذا الحكم لما سبق ذكره ممَّا لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتعليلات أخرى هي:
أن نحافة الولد الناشئة غالباً عن الاستحياء من القرابة القريبة معنى ظاهر يصلح أصلا لذلك. أن من مقاصد النكاح اتصال القبائل لأجل التعاضد والمعاونة واجتماع الكلمة، وهو مفقود في زواج القرابة. أن ضعف الشهوة في القريبة, يجيء بالولد نحيفاً. أن ولد الأجنبية أنجب. أنه لا يأمن الفراق فيفضي مع القرابة إلى قطيعة الرحم المأمور بصلتها. لكن بعض الشافعية نازع في هذا الحكم لافتقاره إلى نصّ شرعيّ يستند إليه، قال السبكي: ((فينبغي أن لا يثبت هذا الحكم لعدم الدليل)).
وطالما أن الأمر فيما ذهب إليه الشافعية والحنابلة مستند إلى التجربة فإنه يجدر بنا أن نذكر شيئاً من الإحصاءات العصرية فيما يسببه زواج الأقارب.
ورد في كتاب ((ندوة الفحص الطبي)): ((يساء فهم تأثير زواج الأقارب، ويلقى باللوم على هذه العادة الاجتماعية العميقة الجذور في مجتمعنا، وكثيراً ما تتهم عادة زواج الأقارب بأنها السبب في أمراض أطفالنا وإعاقاتهم، إن هناك نسبة احتمالات معروفة؛ لإنجاب تخلقات غير طبيعية، أو أمراض وراثية، عند كل زواج أي عند كل حمل، فالنسبة بين زواج الأغراب، تكون 2%، أي أن الزوجين من غير الأقرباء لديهما فرصة 98% لإنجاب أطفال أصحاء في كل حمل، أما زواج الأقارب من أبناء العمومة الأولى، فإن احتمال فرصة الإنجاب غير الطبيعي تزيد، فتكون 4% أي أن لديهم فرصة 96% لإنجاب أطفال أصحّاء، وترتفع نسبة احتمال إنجاب الأمراض الوراثية كلما زادت صلة القرابة بين الزوجين، وكلما تكررت عبر أجيال متتالية في الأسرة)).
وفي ختام الكلام ننبّه على ثلاثة أمور:
إن هذه الإحصائية تزيل لنا الهالة الكبيرة المعطاة للحديث عن زواج الأقارب؛ إذ النسبة ضئيلة في الفرق بين زواج القرابة وغيرها.
إن ما اشتهر على ألسن الناس من حديث: (غربوا النكاح)، غير ثابت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ومعلوم أن الحديث الموضوع لا يجوز ذكره إلا للتنبيه على وضعه؛ فالاحتجاج لعدم زواج القرابة بأحاديث نبوية لا ينبغي لما سبق تفصيله.
إن الشافعية وبعض الحنابلة رأوا من الأسباب السابق ذكرها عدم استحباب زواج القرابة القريبة ولم يوصلوا ذلك للسنية؛ لأن الاستحباب أدنى درجة منها؛ ولأن ما ذكروا من التعليلات لا يستفاد منه السنية، فالأمر إذن يدور بين الاستحباب وعدمه فحسب، ولا ننسى أن مَن قال بعدم استحباب زواج القرابة القريبة نصّ على أن زواج القريبة أولى من زواج الأجنبية.